فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وأحيط بثمره} أي: أحاط اللهُ العذابَ بثمره، وقد سبق معنى الثمر.
{فأصبح يقلِّب كفيه} أي: يضرب بيد على يد، وهذا فعل النادم، {على ما أنفق فيها} أي: في جنته، و{في} هاهنا بمعنى على.
{وهي خاوية} أي: خالية ساقطة {على عروشها} والعُروش: السقوف، والمعنى: أن حيطانها قائمة والسقوف قد تهدَّمت فصارت في قرارها، فصارت الحيطان كأنها على السقوف، {ويقول يا ليتني لم أُشرك بربِّي أحدًا} فأخبر الله تعالى أنه لما سلبه ما أنعم به عليه، وحقق ما أنذره به أخوه في الدنيا، ندم على شِركه حين لا تنفعة الندامة.
وقيل: إِنما يقول هذا في القيامة.
{ولم تكن له فئة} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: {ولم تكن} بالتاء.
وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: {ولم يكن} بالياء.
والفئة: الجماعة {ينصرونه} أي: يمنعونه من عذاب الله.
قوله تعالى: {هنالك الوَلاية} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصم: {الوَلاية} بفتح الواو و{للهِ الحقِّ} خفضًا.
وقرأ حمزة: {الوِلاية} بكسر الواو، و{لله الحقِّ} بكسر القاف أيضًا.
وقرأ أبو عمرو بفتح الواو، ورفع {الحقُّ}، ووافقه الكسائيُّ في رفع القاف، لكنه كسر {الوِلاية}، قال الزجاج: معنى الولاية في مثل تلك الحال: تبيين نصرة وليِّ الله.
وقال غيره: هذا الكلام عائد إِلى ما قبل قصة الرجلين.
فأما من فتح واو {الوَلاية} فإنه أراد الموالاة والنصرة، ومن كسر، أراد السلطان والملك على ما شرحنا في آخر [الأنفال: 72].
فعلى قراءة الفتح، في معنى الكلام قولان.
أحدهما: أنهم يتوَلَّون الله تعالى في القيامة، ويؤمنون به، ويتبرَّؤون مما كانوا يعبدون، قاله ابن قتيبة.
والثاني: هنالك يتولَّى اللهُ أمرَ الخلائق، فينصر المؤمنين ويخذل الكافرين.
وعلى قراءة الكسر، يكون المعنى: هنالك السُّلطان لله.
قال أبو علي: من كسر قاف {الحقِّ}، جعله من وصف الله عزَّ وجلَّ، ومن رفعه جعله صفة للولاية.
فإن قيل: لم نُعتت الولاية وهي مؤنثة بالحقِّ وهو مصدر؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري.
أحدهما: أن تأنيثها ليس حقيقيًا، فحُملت على معنى النصر؛ والتقدير: هنالك النصر لله الحقُّ، كما حُملت الصيحة على معنى الصياح في قوله: {وأخذَ الذين ظلموا الصيحةُ} [هود: 67].
والثاني: أن الحقَّ مصدر يستوي في لفظه المذكَّر والمؤنث والاثنان والجمع، فيقال: قولك حق، وكلمتك حق، وأقوالكم حق.
ويجوز ارتفاع الحق على المدح للولاية، وعلى المدح لله تعالى بإضمار هو.
قوله تعالى: {هو خير ثوابًا} أي: هو أفضل ثوابًا ممن يُرجى ثوابه، وهذا على تقدير أنه لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل.
قوله تعالى: {وخير عُقبا} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي: {عُقُبًا} مضمومة القاف.
وقرأ عاصم، وحمزة: {عُقْبًا} ساكنة القاف.
قال أبو علي: ما كان على فُعُل جاز تخفيفه، كالعُنُق، والطُّنُب، قال أبو عبيدة: العُقُب، والعُقْب، والعُقْبى، والعاقبة، بمعنى، وهي الآخرة، والمعنى: عاقبة طاعة الله خير من عاقبة طاعة غيره. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ}.
اسم ما لم يسم فاعله مضمر، وهو المصدر.
ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع.
ومعنى {أُحِيط بثمره} أي أهْلِك مالهُ كله.
وهذا أوّل ما حقق الله تعالى به إنذار أخيه.
{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} أي فأصبح الكافر يضرب إحدى يديه على الأخرى ندمًا؛ لأن هذا يصدر من النادم.
وقيل: يقلِّب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق؛ وهذا لأن المِلك قد يعبَّر عنه باليد، من قولهم: في يده مال، أي في مِلكه مال.
ودلّ قوله: {فأصبح} على أن هذا الإهلاك جرى بالليل؛ كقوله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ} {فَأَصْبَحَتْ كالصريم} ويقال: أنفقتُ في هذه الدار كذا وأنفقت عليها.
{وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي خالية قد سقط بعضها على بعض؛ مأخوذ من خَوَتِ النجوم تخوى خَيَّا أمْحَلَتْ، وذلك إذا سقطت ولم تُمْطر في نَوْئها.
وأخْوَت مثله.
وخَوّت الدار خَواء أقْوَت، وكذلك إذا سقطت؛ ومنه قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا} ويقال ساقطة؛ كما يقال فهي خاوية على عروشها أي ساقطة على سقوفها؛ فجمع عليه بين هلاك الثمر والأصل، وهذا من أعظم الجوائح، مقابلةً على بَغْيه.
{وَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} أي يا ليتني عرفت نعم الله عليّ، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به.
وهذا ندم منه حين لا ينفعه الندم.
قوله تعالى: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله}.
{فِئةٌ} اسم {تكن} و{له} الخبر.
{يَنْصُرونه} في موضع الصفة، أي فئة ناصرة.
ويجوز أن يكون {ينصرونه} الخبر.
والوجه الأوّل عند سيبويه أوْلى لأنه قد تقدّم {له}. وأبو العباس يخالفه، ويحتج بقول الله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]. وقد أجاز سيبويه الآخرَ.
و{ينصرونه} على معنى فئة؛ لأن معناها أقوام، ولو كان على اللفظ لقال ولم تكن له فئة تنصره؛ أي فرقة وجماعة يلتجىء إليهم.
{وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [القلم: 19-20] أي ممتنعًا؛ قاله قتادة.
وقيل: مسترِدًّا بدل ما ذهب منه. وقد تقدم اشتقاق الفئة في آل عمران. والهاء عوض من الياء التي نقصت من وسطه، أصله فِيءٌ مثلُ فِيع؛ لأنه من فاء، ويجمع على فِئون وفِئات، مثل شِيَات ولِدَات ومئات. أي لم تكن له عشيرة يمنعونه من عذاب الله، وضلّ عنه مَن افتخر بهم من الخدم والولد.
قوله تعالى: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق}.
اختلف في العامل في قوله: {هنالك} وهو ظرف؛ فقيل: العامل فيه {ولم تكن له فئة} ولا كان هنالك؛ أي ما نُصر ولا انتصر هنالك، أي لما أصابه من العذاب.
وقيل: تم الكلام عند قوله: {منتصِرًا}.
والعامل في قوله: {هنالك الولاية} وتقديره على التقديم والتأخير: الولاية لله الحقِّ هنالك، أي في القيامة.
وقرأ أبو عمرو والكسائي {الحقُّ} بالرفع نعتًا للولاية.
وقرأ أهل المدينة وحمزة {الحقِّ} بالخفض نعتًا لله عز وجل، والتقدير: لله ذي الحق.
قال الزجاج: ويجوز {الحقَّ} بالنصب على المصدر والتوكيد؛ كما تقول: هذا لك حقًا.
وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {الوِلاية} بكسر الواو، الباقون بفتحها، وهما بمعنًى واحد كالرِّضاعة والرَّضاعة.
وقيل: الوَلاية بالفتح من الموالاة؛ كقوله: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} [البقرة: 257].
{ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ} [محمد: 11].
وبالكسر يعني السلطان والقدرة والإمارة؛ كقوله: {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] أي له الملك والحكم يومئذ، أي لا يُردَّ أمره إلى أحد؛ والملك في كل وقت لله ولكن تزول الدعاوى والتّوَهّمات يوم القيامة.
وقال أبو عبيد: إنها بفتح الواو للخالق، وبكسرها للمخلوق.
{هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} أي الله خير ثوابًا في الدنيا والآخرة لمن آمن به، وليس ثَمّ غير يُرْجَى منه، ولكنه أراد في ظن الجهال؛ أي هو خير مَن يُرجى.
{وَخَيْرٌ عُقْبًا} قرأ عاصم والأعمش وحمزة ويحيى {عُقْبا} ساكنة القاف، الباقون بضمها، وهما بمعنًى واحد؛ أي هو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به.
يقال: هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعَقْبُه، أي آخره. اهـ.

.قال أبو حيان:

وبلغ الله المؤمن ما ترجاه من هلاك ما بيد صاحبه الكافر وإبادته على خلاف ما ظنّ في قوله ما أظن أن تبيد هذه أبدًا فأخبر تعالى أنه {أحيط بثمره} وهو عبارة عن الإهلاك وأصله من أحاط به العدّو وهو استدارته به من جوانبه، ومتى أحاط به ملكه واستولى عليه ثم استعملت في كل إهلاك ومنه {إلاّ أن يحاط بكم} وقال ابن عطية: الإحاطة كناية عن عموم العذاب والفساد انتهى.
والظاهر أن الإحاطة كانت ليلًا لقوله: {فأصبح} على أن أنه يحتمل أن يكون معنى {فأصبح} فصار فلا يدل على تقييد الخبر بالصباح، وتقليب كفيه ظاهره أنه {يقلب كفيه} ظهرًا لبطن وهو أنه يبدي باطن كفه ثم يعوج كفه حتى يبدو ظهرها، وهي فعلة النادم المتحسر على شيء قد فاته، المتأسف على فقدانه، كما يكنى بقبض الكف والسقوط في اليد.
وقيل: يصفق بيده على الأخرى و{يقلب كفيه} ظهر البطن.
وقيل: يضع باطن إحداهما على ظهر الأخرى، ولما كان هذا الفعل كناية عن الندم عداه تعدية فعل الندم فقال: {على ما أنفق فيها} كأنه قال: فأصبح نادمًا على ذهاب ما أنفق في عمارة تلك الجنة {وهي خاوية على عروشها} تقدم الكلام على هذه الجملة في أواخر البقرة.
وتمنيه انتفاء الشرك الظاهر أنه صدر منه ذلك في حالة الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة، وفي ذلك زجر للكفرة من قريش وغيرهم لئلا يجيء لهم حال يؤمنون فيها بعد نقم تحل بهم، قيل: أرسل الله عليها نارًا فأكلتها فتذكر موعظة أخيه، وعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركًا.
وقال بعض المفسرين: هي حكاية عن قول الكافر هذه القالة في الآخرة، ولما افتخر بكثرة ماله وعزة نفره أخبر تعالى أنه لم تكن {له فئة} أي جماعة تنصره ولا كان هو منتصرًا بنفسه، وجمع الضمير في {ينصرونه} على المعنى كما أفرده على اللفظ في قوله: {فئة تقاتل في سبيل الله} واحتمل النفي أن يكون منسحبًا على القيد فقط، أي له فئة لكنه لا يقدر على نصره.
وأن يكون منسحبًا على القيد، والمراد انتفاؤه لانتفاء ما هو وصف له أي لا فئة فلا نصر وما كان منتصرًا بقوة عن انتقام الله.
وقرأ الأخوان ومجاهد وابن وثاب والأعمش وطلحة وأيوب وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير ولم يكن بالياء لأن تأنيث الفئة مجاز.
وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بالتاء.
وقرأ ابن أبي عبلة {فئة} تنصره على اللفظ والحقيقة في هنالك أن يكون ظرف مكان للبعد، فالظاهر أنه أشير به لدار الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله كقوله: {لمن الملك اليوم} قيل: لما نفى عنه الفئة الناصرة في الدنيا نفى عنه أن ينتصر في الآخرة، فقال: {وما كان منتصرًا هنالك} أي في الدار الآخرة، فيكون {هنالك} معمولًا لقوله: {منتصرًا}.
وقال الزجّاج: أي {وما كان منتصرًا} في تلك الحال و{الولاية لله} على هذا مبتدأ وخبر.
وقيل: {هنالك الولاية لله} مبتدأ وخبر، والوقف على قوله: {منتصرًا}.
وقرأ الأخوان والأعمش وابن وثاب وشيبة وابن غزوان عن طلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير {الولاية} بكسر الواو وهي بمعنى الرئاسة والرعاية.
وقرأ باقي السبعة بفتحها بمعنى الموالاة والصلة.
وحُكِي عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحن لأن فعالة إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلدًا وليس هنالك تولي أمور.
وقال الزمخشري: {الولاية} بالفتح النصرة والتولي وبالكسر السلطان والملك، وقد قرئ بهما والمعنى هنالك أي في ذلك المقام، وتلك الحال النصرة لله وحده لا يملكها غيره ولا يستطيعها أحد سواه تقريرًا لقوله: {ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله} أو {هنالك} السلطان والملك {لله} لا يغلب ولا يمتنع منه، أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر يعني إن قوله: {يا ليتني لم أشرك بربي أحدًا} كلمة ألجىء إليها فقالها فزعًا من شؤم كفره، ولولا ذلك لم يقلها.
ويجوز أن يكون المعنى {هنالك الولاية لله} ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم، يعني أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن.
وصدق قوله عسى {ربي أن يؤتيني خيرًا من جنتك ويرسل عليها حسبانًا من السماء} ويعضده قوله: {هو خير ثوابًا وخير عقبًا} أي لأوليائه انتهى.
وقرأ النحويان وحميد والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني {الحق} برفع القاف صفة للولاية.
وقرأ باقي السبعة بخفضها وصفًا لله تعالى.
وقرأ أبي: {هنالك الولاية} الحق لله برفع الحق للولاية وتقديمها على قوله: {لله}.
وقرأ أبو حيوة وزيد بن عليّ وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال ويعقوب عن عصمة عن أبي عمرو {لله الحق} بنصب القاف.
قال الزمخشري: على التأكيد كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل وهي قراءة حسنة فصيحة، وكان عمرو بن عبيد رحمة الله عليه ورضوانه من أفصح الناس وأنصحهم انتهى.
وكان قد قال الزمخشري: وقرأ عمرو بن عبيد رحمه الله انتهى.
فترحم عليه وترضى عنه إذ هو من أوائل أكابر شيوخه المعتزلة، وكان على غاية من الزهد والعبادة وله أخبار في ذلك إلاّ أن أهل السنة يطعنون عليه وعلى أتباعه، وفي ذلك يقول أبو عمرو الداني في أرجوزته التي سماها المنبهة:
وابن عبيد شيخ الاعتزال ** وشارع البدعة والضلال

وقرأ الحسن والأعمش وعاصم وحمزة {عقبًا} بسكون القاف والتنوين، وعن عاصم عقبى بألف التأنيث المقصورة على وزن رجعى، والجمهور بضم القاف والتنوين والثلاث بمعنى العاقبة. اهـ.